فصل: (سورة التوبة: الآيات 32- 33)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة التوبة: آية 31]

{اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
اتخاذهم أربابا: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرم اللّه وتحريم ما حلله، كما تطاع الأرباب في أوامرهم. ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به: عباده، بل كانوا يعبدون الجن {يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ} وعن عدىّ بن حاتم رضى اللّه عنه: انتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «أليسوا يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه، ويحلون ما حرّمه فتحلونه»؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم.
وعن فضيل رضى اللّه عنه: ما أبالى أطعت مخلوقا في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وأمّا المسيح فحين جعلوه ابنا للّه فقد أهلوه للعبادة. ألا ترى إلى قوله: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ}. {وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهًا واحِدًا} أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام: أنه من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنة {سُبْحانَهُ} تنزيه له عن الإشراك به، واستبعاد له. ويجوز أن يكون الضمير في {وَما أُمِرُوا} للمتخذين أربابًا، أى: وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا ليعبدوا اللّه ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم.

.[سورة التوبة: الآيات 32- 33]

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد ان ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد اللّه أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة، ليطفئه بنفخه ويطمسه {لِيُظْهِرَهُ} ليظهر الرسول عليه السلام {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على أهل الأديان كلهم. أو ليظهر دين الحق على كل دين. فإن قلت: كيف جاز، أبى اللّه إلا كذا، ولا يقال: كرهت أو أبغضت إلا زيدًا؟ قلت: قد أجرى أبى مجرى لم يرد ألا ترى كيف قوبل {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا} بقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ} وكيف أوقع موقع ولا يريد اللّه إلا أن يتمّ نوره. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ عَبْدُ الله} كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين، و{عزير} مبتدأ و{ابن الله} خبره، وقد قرأ عاصم والكسائي {عزير} بالتنوين، وقرأ الباقون بترك التنوين لاجتماع العجمة والعلمية فيه.
ومن قرأ بالتنوين فقد جعله عربيًا؛ وقيل: إن سقوط التنوين ليس لكونه ممتنعًا بل لاجتماع الساكنين، ومنه قراءة من قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1، 2].
قال أبو عليّ الفارسي: وهو كثير في الشعر، وأنشد ابن جرير الطبري:
لتجديني بالأمير برّا ** وبالقناة لامرا مكرًّا

إذا غطيت السلمى فرًّا

وظاهر قوله: {وَقَالَتِ اليهود} أن هذه المقالة لجميعهم.
وقيل: هو لفظ خرج على العموم، ومعناه: الخصوص لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم.
وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها؟ بل قد انقرضوا.
وقيل: إنه قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم، فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود؛ لأن قول بعضهم لازم لجميعهم.
قوله: {وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} قالوا هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب، فكان ذلك سببًا لهذه المقالة، والأولى أن يقال: إنهم قالوا هذه المقالة لكون في الإنجيل وصفه تارة بابن الله وتارة بابن الإنسان، كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم، أو لم يظهر لهم أن ذلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة.
قيل: وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى لا لكلهم.
قوله: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة.
ووجه قوله بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا الفم.
بأن هذا القول لما كان ساذجًا ليس فيه بيان، ولا عضده برهان، كان مجرّد دعوى، لا معنى تحتها فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه، غير مفيدة لفائدة يعتدّ بها.
وقيل: إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد، كما في: كتبت بيدي ومشيت برجلي، ومنه قوله تعالى: {يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79].
وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
وقال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه لم يذكر قولًا مقرونًا بذكر الأفواه والألسن، إلا وكان قولًا زورًا كقوله: {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، وقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]، وقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11].
قوله: {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} المضاهاة: المشابهة، قيل: ومنه قول العرب امرأة ضهياء، وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال.
قال أبو عليّ الفارسي: من قال: {يضاهئون} مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء فقوله خطأ؛ لأن الهمزة في ضاهأ أصلية، وفي ضهياء زائدة كحمراء، وأصله يضاهئون وامرأة ضهياء.
ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا فيه أقوال لأهل العلم: الأوّل: أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم: واللات والعزى ومناة بنات الله.
القول الثاني: أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين: إن الملائكة بنات الله، الثالث: أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزير ابن الله وأن المسيح ابن الله.
قوله: {قاتلهم الله} دعاء عليهم بالهلاك؛ لأن من قاتله الله هلك، وقيل: هو تعجب من شناعة قولهم.
وقيل: معنى قاتلهم الله: لعنهم الله، ومنه قول أبان بن تغلب:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت ** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل قاتل الله: الدعاء.
ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشرّ وهم لا يريدون الدعاء.
وأنشد الأصمعي:
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني ** وأخبر الناس أني لا أباليها

{أنى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} الأحبار: جمع حبر.
وهو الذي يحسن القول، ومنه ثوب محبر.
وقيل: جمع حبر بكسر الحاء.
قال يونس: لم أسمعه إلا بكسر الحاء.
وقال الفراء: الفتح والكسر لغتان، وقال ابن السكيت: الحبر بالكسر العالم، والحبر بالفتح العالم.
والرهبان: جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهم علماء النصارى كما أن الأحبار علماء اليهود.
ومعنى الآية: أنهم لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به، وينهونهم عنه كانوا بمنزلة المتخذين لهم أربابًا، لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب، قوله: {والمسيح ابن مَرْيَمَ} معطوف على رهبانهم: أي اتخذه النصارى ربًا معبودًا، وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزيرًا ربًا معبودًا.
وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستنّ بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص، وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم، وحرّموا ما حرّموا، وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء، فيا عباد الله، ويا أتباع محمد بن عبد الله، ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبًا، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده.
فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة، تنادي بأبلغ نداء، وتصوّت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموهما آذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، وأفهامًا مريضة، وعقولًا مهيضة، وأذهانًا كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وإن ترشد غزية أرشد

فدعوا- أرشدكم الله وإياي- كتبًا كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله، خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتكم وقدوتهم، وهو الإمام الأوّل: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
دعوا كل قول عند قول محمد ** فما آبن في دينه كمخاطر

اللهم هادي الضالّ، مرشد التائه، موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب، وأوضح لنا منهج الهداية.
قوله: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، والحال: أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله وحده، أو ما أمر الذين اتخذوهم أربابًا من الأحبار والرهبان إلا بذلك، فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أربابًا.
قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} صفة ثانية لقوله: {إلها} {سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزيهًا له عن الإشراك في طاعته وعبادته.
قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من أنواع ضلالهم وبعدهم عن الحق، وهو ما راموه من إبطال الحق بأقاويلهم الباطلة، التي هي مجرّد كلمات ساذجة، ومجادلات زائفة، وهذا تمثيل لحالهم في محاولة إبطال دين الحق، ونبوّة نبيّ الصدق، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم قد أنارت به الدنيا، وانقشعت به الظلمة، ليطفئه ويذهب أضواءه {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي: دينه القويم.
وقد قيل: كيف دخلت إلا الاستثنائية على يأبى، ولا يجوز كرهت أو بغضت إلا زيدًا.
قال الفراء: إنما دخلت لأن في الكلام طرفًا من الجحد.
وقال الزجاج: إن العرب تحذف مع أبى، والتقدير: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره.
وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في أبى، لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي، قال النحاس: وهذا أحسن.
كما قال الشاعر:
وهل لي أمّ غيرها إن تركتها ** أبى الله إلا أن أكون لها ابنا

وقال صاحب الكشاف: إن أبر قد أجرى مجرى لم يرد: أي ولا يريد إلا أن يتمّ نوره.
قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} معطوف على جملة قبله مقدرة: أي أبى الله إلا أن يتمّ نوره، ولو لم يكره الكافرون ذلك، ولو كرهوا، ثم أكد هذا بقوله: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} أي: بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات، والأحكام التي شرعها الله لعباده، {وَدِينِ الحق} وهو: الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ} أي: ليظهر رسوله، أو دين الحق بما اشتمل عليه من الحجج والبراهين، وقد وقع ذلك ولله الحمد {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} الكلام فيه كالكلام في {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} كما قدّمنا ذلك.